أربعون عاماً من البحث عن السلام العربي-الإسرائيلي

لم تحظ أي قضية دولية تقريباً بنفس القدر من اهتمام الرؤساء ووزراء الخارجية الأميركيين الذي حظي به النزاع العربي-الإسرائيلي خلال الأعوام الأربعين الماضية. وقد جاءت نقطة التحول الحاسمة بالنسبة للمنطقة، وللولايات المتحدة، في جويلية 1976 عندما اندلعت الحرب بين إسرائيل ومعظم الدول العربية المجاورة لها. وتمكنت إسرائيل خلال أيام من تحقيق نصر في ساحة المعركة وأصبحت تحتل أراضي عربية في سيناء وغزة والضفة الغربية وهضبة الجولان
واتخذ الرئيس لندون جونسون، الذي كان منشغلاً آنذاك بحرب فيتنام، قراراً حاسم الأهمية بأنه لا ينبغي العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل الحرب. وبدل ذلك، ستدعم الولايات المتحدة إسرائيل في الاحتفاظ بالأراضي التي تم احتلالها في تلك الحرب إلى أن تصبح الدول العربية مستعدة للاعتراف بإسرائيل وإقامة السلام معها. وأيد قسم كبير من المجتمع الدولي هذا الموقف من خلال الموافقة على قرار مجلس الأمن 242 في نوفمبر 1967وكانت المقايضة الأساسية التي تصورتها هذه الوثيقة المهمة مقايضة بين انسحاب إسرائيل "من أراض احتُلت في النزاع الأخير" و "إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام سيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة والاعتراف بذلك، وكذلك استقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها متحررة من أعمال القوة أو التهديد بها." وفي حين أن القرار لم يذهب إلى حد الدعوة إلى انسحاب إسرائيلي كامل من جميع الأراضي المحتلة وإلى معاهدات سلام تامة، إلا أن ما كان مفهوماً آنذاك، وفي ما بعد، هو أنه كان يدعو إلى مبادلة "الأرض مقابل السلام."
وفي حين أن القرار 242 أقام المعادلة الرئيسية التي هدت جهود إحلال السلام العربي-الإسرائيلي التالية، إلا أنه ترك الكثير من الأسئلة دون إجابات. فعلى سبيل المثال، أشار بشكل غير مباشر فقط إلى الفلسطينيين، داعياً إلى "تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين." ولم يتضمن أي شيء عما قد يحدث للضفة الغربية وغزة، التي يسكنها مليون فلسطيني أو ما يقارب ذلك وأصبحت الآن تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. كما أنه لم يعالج القضية الحساسة الخاصة بوضع القدس، التي كانت مقسومة في السابق بين إسرائيل والأردن والآن خاضعة بكاملها للسيطرة الإسرائيلية التامة وتم ضمها إلى إسرائيل الأصلية.
عملية السلام
رغم أن القرار 242 أصبح يشكل ركيزة جهود السلام العربية-الإسرائيلية بعد عام 1967، إلا أنه من الإنصاف القول مع ذلك أنه بالكاد وقع أي إحلال سلام حقيقي حتى الفترة التي تلت النزاع الكبير التالي في المنطقة، حرب أكتوبر 1973. وقد شنت مصر وسوريا، اللتان كانتا تشعران بالإحباط من عدم تمكنهما من كسر الجمود التام الذي ظل قائماً على الجبهتين الدبلوماسية والعسكرية منذ حرب عام 1967، هجوماً مفاجئاً في 6 أكتوبر، 1973. وأثارت الحرب التي جاءت في لحظة حاسمة في الحرب الباردة وفي رئاسة رتشارد نيكسون التي كانت تتم مهاجمتها، أزمة ليس فقط إقليمية وإنما أيضاً عالمية. وأقنع هذا الرئيس نيكسون ووزير خارجيته النشط، هنري كيسنجر، بتكريس جهود دبلوماسية لم يسبق لها مثيل في سبيل التوصل إلى حل للنزاع.
وأدخل كيسنجر عدة أساليب على ما أصبح يطلق عليه اسم "عملية السلام." أولا، سافر مراراً متكررة إلى المنطقة للتعامل مع الرؤساء ورؤساء الوزارات والملوك وجهاً لوجه. وأصبح هذا الأسلوب يعرف في ما بعد بـ "الدبلوماسية المكوكية،" وأصبح يشكل منذ ذلك الحين نوعاً من المعيار الذي يحكم الكثيرون على أساسه على جدية الالتزام الأميركي بالتوصل إلى نتائج من الجهود الدبلوماسية. ثانياً، كان كيسنجر يشك في الصفقات الإجمالية، والصفقات الشاملة والقدرة على حل النزاعات التي ما فتئت قائمة منذ فترة طويلة بسرعة. وبالتالي، فقد حث الأطراف على التركيز على خطوات صغيرة عملية نحو السلام بدل الإصرار على حل جميع المشاكل دفعة واحدة. وأصبح هذا الأسلوب يعرف في ما بعد بدبلوماسية "الخطوة خطوة،" ونتج عن ذلك التوصل إلى ثلاث اتفاقيات: سيناء 1 والجولان 1 في أوائل عام 1974، وسيناء 2 في خريف عام 1975.
السلام المصري-الإسرائيلي
لم يقم كيسنجر بالمساعدة في إنهاء المأزق الدبلوماسي بين إسرائيل وجيرانها العرب فقط، وإنما فرض أيضاً السيادة الأميركية على عملية التفاوض. وكانت وجهة نظره هي أن الولايات المتحدة وحدها، وذلك جزئياً بسبب العلاقات الفريدة التي تربطها بإسرائيل، وبسبب مواردها الاقتصادية والعسكرية، هي القادرة على تقديم الجزر والعصي (أي المكافآت والعقوبات) الضرورية لدفع الأطراف المحلية إلى تقديم التنازلات الضرورية للسلام. ومن الذين اقتنعوا بهذا الرأي منذ فترة مبكرة الرئيس المصري أنور السادات، الذي كان مولعاً بإعلان أن الولايات المتحدة تمسك في يدها"99 بالمئة من أوراق اللعبة." (وكان يعرف في الواقع أن في ذلك القول مبالغة ولكنه كان يريد من الأميركيين أن يأخذوا بجدية المسؤولية الرئيسية التي تولوها كقيمين على عملية إحلال السلام.
وعندما تولى جيمي كارتر الرئاسة في جانفي 1977، لم يكن قد تم إحراز أي تقدم في الدبلوماسية العربية-الإسرائيلية لفترة أكثر من عام وكانت حدة التوترات قد أخذت ترتفع، خاصة مع تدهور الوضع في لبنان. وخلص كارتر ومستشاروه في فترة مبكرة إلى أن دبلوماسية الخطوة خطوة قد وصلت إلى نقطة النهاية. وأصبحوا يعتقدون أن الوقت قد حان لرؤية ما إذا كان من الممكن تحقيق سلام عربي-إسرائيلي شامل. وكان من رأي كارتر أن ذلك يعني دفع الأطراف العربية إلى مواجهة متطلبات السلام: الاعتراف والسلام اللذان تحتاجهما إسرائيل، والانسحاب من الأراضي والاعتراف بحقوق الفلسطينيين اللذان يشكلان مطلبين عربيين أساسيين.
وكان كارتر أول رئيس أميركي تحدث عن "وطن فلسطيني،" وهو تعبير كان مثيراً للجدل والخلاف آنذاك، وتعبير أوضح أنه يتعين النظر إلى القضية الفلسطينية كقضية سياسية، لا مجرد قضية إنسانية. ومن سوء حظ كارتر أنه لم يكن هناك إجماع حول الطرف الذي سيتحدث باسم الفلسطينيين في المفاوضات المستقبلية، وقد تم التفكير في أوقات مختلفة بكل من الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ومصر.
وتلقت رؤيا كارتر الطموحة الخاصة بالسلام الشامل ضربة قاسية في أواسط عام 1977 بانتخاب مناحيم بيغن رئيساً للوزراء في إسرائيل. وكان بيغن رئيساً لحزب ليكود، الذي كان مبدأه الأساسي هو أن من حق إسرائيل الاحتفاظ بجميع ما كان يطلق هو عليه اسم "يهودا والسامرة،" أو الضفة الغربية. وكان هذا مناقضاً تماماً لآراء أولئك الذي صاغوا قرار مجلس الأمن 242، كما كان يناقضها أيضاً إصرار بيغن على حق إسرائيل في تشييد المستوطنات المدنية في هذه الأراضي. وأحس كارتر وفريقه بالإحباط من تصلب بيغن، ولكنهم واصلوا المضي قدما، مكتشفين بعد فترة قصيرة فرصة ملائمة على الجبهة المصرية-الإسرائيلية.
فقد شعر السادات بالقلق نتيجة فقدان الزخم في عملية السلام وقرر محاولة كسر ما اعتبره "الحاجز النفسي" الذي يقف في طريق السلام عن طريق السفر إلى إسرائيل في نوفمبر من عام 1977 والدعوة إلى "لا حرب بعد الآن." وكان لذلك تأثير دراماتيكي جداً في إسرائيل، وسرعان ما اتضح أن أفضل فرصة لتحقيق السلام أصبحت تكمن الآن بين مصر وإسرائيل. وكان السادات وكارتر ما زالا يأملان أن يكون من الممكن تضمين الاتفاق شيئاً للفلسطينيين، ولكن بيغن كان ممانعاً جداً لقبول مثل هذا "الربط."
وفي أواسط عام 1978، بدأ كارتر يشعر باليأس من مشاهدة بيغن والسادات يعقدان اتفاق سلام في أي يوم من الأيام. وعمد لذلك إلى استخدام الدبلوماسية المراهنة على نتائج كبيرة ودعاهما إلى اجتماع قمة في كامب ديفيد فيسبتمبر 1978. وكان المكان منعزلاً والضغوط شديدة، وكان الجو أبعد ما يكون عن الصداقة والمجاملة والتكيف. إلا أنه تم خلال فترة 13 يوماً، بمشاركة مباشرة جداً من قبل الرئيس، التوصل إلى صياغة اتفاقيتين والموافقة عليهما، هما اتفاقياتا كامب ديفيد، إحداهما إطار عام للسلام، والأخرى موجز لاتفاقية محددة بين مصر وإسرائيل..
وكان رد فعل معظم أنحاء العالم العربي على اتفاقيتي كامب ديفيد الدهشة والمعارضة. وقد رأى فيها الكثيرون خطة مفصلة لسلام مصري-إسرائيلي على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام" الوارد في القرار 242، ولكن بدون أي شيء مماثل يعالج المسألة الفلسطينية أو الجبهة السورية. واعتبر الكثير من العرب أن السادات وافق على "سلام منفصل،" مما يعتبر خطيئة أساسية فاحشة من زاوية أعراف القومية العربية. وسرعان ما اتضح أن بيغن لم يوافق على وضع حد لنشاط بناء المستوطنات في الضفة الغربية وغزة، وبدأ أي استعداد كان قد ظهر بالانتظار والإحجام عن إدانة تلك الجوانب التي تضمنتها اتفاقيتا كامب ديفيد بهدف استمالة الفلسطينيين، بالتلاشي.
ولكن السادات كان قد قطع شوطاً مفرط التقدم لم يعد باستطاعته معه التراجع، وفي مارس 1979، وبعد مبادرة رئاسية أخرى، إذ سافر كارتر إلى الشرق الأوسط لحسم مفاوضات المعاهدة نهائيا، تم توقيع أول اتفاقية سلام عربية-إسرائيلية في المرج الشمالي في البيت الأبيض.
ضم الفلسطينيين إلى العملية
كان كارتر مدركاً أن السلام بين مصر وإسرائيل لا يعني نهاية النزاع العربي-الإسرائيلي. إلا أنه، ومعظم الأميركيين، كانوا يعتبرونه رغم ذلك خطوة رئيسية في الاتجاه الصحيح، خطوة أقامت نموذجاً من نوع ما لجهود السلام في المستقبل، وخطوة ستجعل من الممكن إقامة علاقات جديدة بشكل دراماتيكي بين القاهرة وواشنطن

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

L'Europe est beaucoup plus qu'un territoire géographique

Mohamed Mejri, de Lampedusa au yacht de Tarak Ben Ammar